فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

في النسيان وجهان:
الأول: أن المراد منه هو النسيان نفسه الذي هو ضد الذكر.
فإن قيل: أليس أن فعل الناسي في محل العفو بحكم دليل العقل حيث لا يجوز تكليف ما لا يطاق وبدليل السمع وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فإذا كان النسيان في محل العفو قطعًا فما معنى طلب العفو عنه في الدعاء.
والجواب: عنه من وجوه:
الأول: أن النسيان منه ما يعذر فيه صاحبه، ومنه ما لا يعذر ألا ترى أن من رأى في ثوبه دمًا فأخر إزالته إلى أن نسي فصلّى وهو على ثوبه عد مقصرًا، إذ كان يلزمه المبادر إلى إزالته وأما إذا لم يره في ثوبه فإنه يعذر فيه، ومن رمى صيدًا في موضع فأصاب إنسانًا فقد يكون بحيث لا يعلم الرامي أنه يصيب ذلك الصيد أو غيره فإذا رمى ولم يتحرز كان ملومًا أما إذا لم تكن أمارات الغلط ظاهرة ثم رمى وأصاب إنسانًا كان هاهنا معذورًا، وكذلك الإنسان إذا تغافل عن الدرس والتكرار حتى نسي القرآن يكون ملومًا، وأما إذا واظب على القراءة، لكنه بعد ذلك نسي فههنا يكون معذورًا، فثبت أن النسيان على قسمين، منه ما يكون معذورًا، ومنه ما لا يكون معذورًا، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يذكر حاجته شد خيطًا في أصبعه فثبت بما ذكرنا أن الناسي قد لا يكون معذورًا، وذلك ما إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب التذكر، وإذا كان كذلك صح طلب غفرانه بالدعاء.
الوجه الثاني في الجواب: أن يكون هذا دعاء على سبيل التقدير وذلك لأن هؤلاء المؤمنين الذين ذكروا هذا الدعاء كانوا متقين لله حق تقاته، فما كان يصدر عنهم ما لا ينبغي إلا على وجه النسيان والخطأ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إشعارًا ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به كأن قيل: إن كان النسيان مما تجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذنا به.
الوجه الثالث في الجواب: أن المقصود من الدعاء إظهار التضرع إلى الله تعالى، لا طلب الفعل، ولذلك فإن الداعي كثيرًا ما يدعو بما يقطع بأن الله تعالى يفعله سواء دعا أو لم يدع، قال الله تعالى: {قَالَ رَبّ احكم بالحق} [الأنبياء: 112] وقال: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} [آل عمران: 194] وقالت الملائكة في دعائهم {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7] فكذا في هذه الآية العلم بأن النسيان مغفور لا يمنع من حسن طلبه في الدعاء.
الوجه الرابع في الجواب: أن مؤاخذة الناسي غير ممتنعة عقلًا، وذلك لأن الإنسان إذا علم أنه بعد النسيان يكون مؤاخذًا فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر، فحينئذ لا يصدر عنه إلا أن استدامة ذلك التذكر فعل شاق على النفس، فلما كان ذلك جائزًا في العقول، لا جرم حسن طلب المغفرة منه بالدعاء.
الوجه الخامس: أن أصحابنا الذين يجوزون تكليف ما لا يطاق يتمسكون بهذه الآية فقالوا الناسي غير قادر على الاحتراز عن الفعل، فلولا أنه جائز عقلًا من الله تعالى أن يعاقب عليه لما طلب بالدعاء ترك المؤاخذة عليه.
والقول الثاني: في تفسير النسيان، أن يحمل على الترك، قال الله تعالى: {فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] وقال تعالى: {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] أي تركوا العمل لله فتركهم، ويقول الرجل لصاحبه: لا تنسني من عطيتك، أي لا تتركني، فالمراد بهذا النسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسد، والمراد بالخطأ، أن يفعل الفعل لتأويل فاسد. اهـ.

.قال القاسمي:

وقد ولع كثير من المفسرين هاهنا بالبحث في أن النسيان والخطأ معفو عنهما، فما فائدة طلب العفو عنهما؟
وأجابوا عن ذلك بوجوه.
وأرق جواب رأيته قول العلامة بير محمد في المدحة الكبرى: لما كان طالب العفو الرسول صلى الله عليه وسلم والأنصار والمهاجرون ومن كان على شاكلتهم فكأنهم يعدون النسيان من العصيان والخطأ من الخطيئة.
كقوله تعالى: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون}. [المؤمنون: 60]. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: النِّسْيَانُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ قَدْ يَتَعَرَّضُ الْإِنْسَانُ لِلْفِعْلِ الَّذِي يَقَعُ مَعَهُ النِّسْيَانُ فَيُحْسِنُ الِاعْتِذَارَ بِهِ إذَا وَقَعَتْ مِنْهُ جِنَايَةٌ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ النِّسْيَانُ بِمَعْنَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِشُبْهَةٍ تَدْخُلُ عَلَيْهِ أَوْ سُوءِ تَأْوِيلٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ نَفْسُهُ وَاقِعًا عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ فَيَحْسُنُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ مَغْفِرَةَ الْأَفْعَالِ الْوَاقِعَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
وَالنِّسْيَانُ بِمَعْنَى التَّرْكِ مَشْهُورٌ فِي اللُّغَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} يَعْنِي تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَسْتَحِقُّوا ثَوَابَهُ، فَأَطْلَقَ اسْمَ النِّسْيَانِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ مُقَابَلَةِ الِاسْمِ كَقَوْلِهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: النِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ فَإِنَّ حُكْمَهُ مَرْفُوعٌ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ، وَالتَّكْلِيفُ فِي مِثْلِهِ سَاقِطٌ عَنْهُ وَالْمُؤَاخَذَةُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ فِيمَا يُكَلِّفُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَصَّ عَلَى لُزُومِ حُكْمِ كَثِيرٍ مِنْهَا مَعَ النِّسْيَانِ، وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ أَيْضًا عَلَى حُكْمِهَا؛ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا وَتَلَا عِنْدَ ذَلِكَ: {وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} فَعَلَ الْمَنْسِيَّةَ مِنْهَا عِنْدَ الذِّكْرِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ} وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي لُزُومِهِ قَضَاءُ كُلِّ مَنْسِيٍّ عِنْدَ ذِكْرِهِ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ نَاسِيَ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْفُرُوضِ بِمَنْزِلَةِ نَاسِي الصَّلَاةِ فِي لُزُومِ قَضَائِهَا عِنْدَ ذِكْرِهَا؛ وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُتَكَلِّمِ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا: إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِدِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْعَامِدَ وَالنَّاسِيَ فِي حُكْمِ الْفُرُوضِ سَوَاءٌ، وَأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلنِّسْيَانِ فِي إسْقَاطِ شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا مَا وَرَدَ بِهِ التَّوْقِيفُ؛ وَلَا خِلَافَ أَنَّ تَارِكَ الطَّهَارَةِ نَاسِيًا كَتَارِكِهَا عَامِدًا فِي بُطْلَانِ حُكْمِ صَلَاتِهِ.
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْأَكْلِ فِي نَهَارِ شَهْرِ رَمَضَانَ نَاسِيًا: إنَّ الْقِيَاسَ فِيهِ إيجَابُ الْقَضَاءِ؛ وَإِنَّهُمْ إنَّمَا تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ لِلْأَثَرِ.
وَمَعَ مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّ النَّاسِيَ مُؤَدٍّ لِفَرْضِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فَعَلَهُ؛ إذْ لَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا الْقَضَاءُ فَرْضٌ آخَرُ أَلْزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَكَانَ تَأْثِيرُ النِّسْيَانِ فِي سُقُوطِ الْمَأْثَمِ فَحَسْبُ، فَأَمَّا فِي لُزُومِ فَرْضٍ فَلَا.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» مَقْصُورٌ عَلَى الْمَأْثَمِ أَيْضًا دُونَ رَفْعِ الْحُكْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَّ عَلَى لُزُومِ حُكْمِ قَتْلِ الْخَطَإِ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ؟ فَلِذَلِكَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسْيَانَ مَعَ الْخَطَإِ، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. اهـ.

.قال الماوردي:

{أَوْ أَخْطَأْنَا} فيه تأويلان:
أحدهما: ما تأولوه من المعاصي بالشبهات.
والثاني: ما عمدوه من المعاصي التي هي خطأ تخالف الصواب.
وقد فَرَّقَ أهل اللسان بين أخطأ وخطيء، فقالوا: أخطأ يكون على جهة الإِثم وغير الإِثم، وخطىء: لا يكون إلا على جهة الإِثم، ومنه قول الشاعر:
والناس يَلْحُون الأَميرَ إذا هُمُ ** خطئوا الصوابَ ولا يُلام المرْشدُ

.قال الفخر:

اعلم أن النسيان والخطأ المذكورين في هذه الآية إما أن يكونا مفسرين بتفسير ينبغي فيه القصد إلى فعل ما لا ينبغي، أو يكون أحدهما كذلك دون الآخر، فأما الاحتمال الأول فإنه يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر، لأن العمد إلى المعصية لما كان حاصلًا في النسيان وفي الخطأ ثم إنه تعالى أمر المسلمين أن يدعوه بقولهم: {لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} فكان ذلك أمرًا من الله تعالى لهم بأن يطلبوا من الله أن لا يعذبهم على المعاصي، ولما أمرهم بطلب ذلك، دلّ على أنه يعطيهم هذا المطلوب، وذلك يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر، وأما القسم الثاني والثالث فباطلان لأن المؤاخذة على ذلك قبيحة عند الخصم، وما يقبح فعله من الله يمتنع أن يطلب بالدعاء.
فإن قيل: الناسي قد يؤاخذ في ترك التحفظ قصدًا وعمدًا على ما قررتم في المسألة المتقدمة.
قلنا: فهو في الحقيقة مؤاخذ بترك التحفظ قصدًا وعمدًا، فالمؤاخذة إنما حصلت على ما تركه عمدًا، وظاهر ما ذكرنا دلالة هذه الآية على رجاء العفو لأهل الكبائر. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما دعوا بما تضمن الإيمان بما نزل إليهم مما حمل من كان قبلهم من الثقل أتبعوه ما يدل على اعتقادهم أن ذلك عدل منه في القضاء، وأنه له أن يفعل فوق ذلك فيكلف بما ليس في الوسع، لأنه المالك التام المِلك والمَلِك المنفرد بالمُلك، وسألوا التخفيف برفع ذلك فقالوا: {ربنا ولا} وعبر بالتفعيل لما فيه بما يفهم من العلاج من مناسبة التكليف بما لا يطاق فقال: {تحملنا ما لا طاقة} أي قدرة {لنا به}.
ولما كان الإنسان قد يتعمد الذنب لشهوة تدعوه إليه وغرض يحمله عليه أتبعوا ذلك دعاء عامًا فقالوا: {واعف عنا} أي ارفع عنا عقاب الذنوب كلها {واغفر لنا} أي ولا تذكرها لنا أصلًا، فالأول العفو عن عقاب الجسم، والثاني العفو عن عذاب الروح.
وقال الحرالي: ولما كان قد يلحق من يعفى عنه ويغفر له قصور في الرتبة عن منال الحظ من الرحمة ألحق تعالى المعفو عنه المغفور له بالمرحوم ابتداء بقوله: {وارحمنا} أي حتى يستوي المذنب التائب والذي لم يذنب قط في منال الرحمة.
ولما ضاعف لهم تعالى عفوه ومغفرته ورحمته أنهاهم بذلك إلى محل الخلافة العاصمة {لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رحم} [هود: 43] فلما صاروا خلفاء تحقق منهم الجهاد لأعداء الله والقيام بأمر الله ومنابذة من تولى غير الله، فتحقق أنه لابد أن يشاققهم أعداء وينابذوهم، فعلمهم الذي رحمهم سبحانه إسناد أمرهم بالولاية إليه قائلًا عنهم: {أنت مولانا} والمولى هو الولي اللازم الولاية القائم بها الدائم عليها لمن تولاه بإسناد أمره إليه فيما ليس هو بمستطيع لها- انتهى بالمعنى.
وكان حقيقته الفاعل لثمرة الولاية وهي القرب والإقبال، وذلك أنهم لما سألوا العفو عن عذاب الجسم والروح سألوا ثوابهما، فثواب الجسم الجنة وثواب الروح لذة الشهود وذلك ثمرة الولاية وهي الإقبال على الولي بالكلية، ثم جعل ختام توجه المؤمنين إلى ربهم الدعاء بثمرة الولاية فقال: {فانصرنا} باللسان والسنان، وأشار إلى قوة المخالفين حثًا على تصحيح الالتجاء والصدق في الرغبة بقوله: {على القوم} وأشار إلى أن الأدلة عليه سبحانه في غاية الظهور لكل عاقل بقوله: {الكافرين} أي الساترين للأدلة الدالة لهم على ربهم المذكورين أول السورة، فتضمن ذلك وجوب قتالهم وأنهم أعدى الأعداء، وأن قوله تعالى: {لا إكراه في الدّين} [البقرة: 256] ليس ناهيًا عن ذلك وإنما هو إشارة إلى أن الدّين صار في الوضوح إلى حد لا يتصور فيه إكراه بل ينبغي لكل عاقل أن يدخل فيه بغاية الرغبة فضلًا عن الإحواج إلى إرهاب، فمن نصح نفسه دخل فيه بما دله عليه عقله، ومن أبى أدخل فيه قهرًا بنصيحة الله التي هي الضرب بالحسام ونافذ السهام.
ولما كان الختم بذلك مشيرًا إلى أنه تعالى لما ضاعف لهم عفوه عن الذنب فلا يعاقب عليه ومغفرته له بحيث يجعله كأن لم يكن فلا يذكره أصلًا ولا يعاقب عليه ورحمته في إيصال المذنب المعفو عنه المغفور له إلى المنازل العالية أنهاهم إلى رتبة الخلافة في القيام بأمره والجهاد لأعدائه وإن جل أمرهم وأعنى حصرهم كان منبهًا على أن بداية هذه الصورة هداية وخاتمتها خلافة، فاستوفت تبيين أمر النبوة إلى حد ظهور الخلافة فكانت سنامًا للقرآن، وكان جماع ما في القرآن منضمًا إلى معانيها إما لما صرحت به أو لما ألاحته وأفهمه إفصاح من إفصاحها كما تنضم هي مع سائر القرآن إلى سورة الفاتحة فتكون أمًا للجميع- أفاد ذلك الأستاذ أبو الحسن الحرالي.
وقد بان بذكر المنزل والإيمان به والنصرة على الكفار بعد تفصيل أمر النفقة والمال الذي ينفق منه رد مقطعها على مطلعها وآخرها على أولها، ومن الجوامع العظيمة في أمرها وشمول معناها المبين لعلو قدرها ما قال الحرالي إنه لما كان منزل هذا القرآن المختص بخاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين منزلًا حروفًا محيطة المعاني مخاطبًا بها النبي والأئمة وتفصيل آيات مخاطبًا به عامة الأمة انتظمت هذه السورة صنفي الخطابين فافتتحت بالم حروفًا منبئة عن إحاطة بما تضمنته معانيها من إحاطة القائم من معنى الألف وإحاطة المقام من معنى الميم وإحاطة الوصلة من معنى اللام؛ ولما كانت الإحاطة في ثلاث رتب إحاطة إلهية قيومية وإحاطة كتابية وإحاطة تفصيلية كانت الإحاطة الخاصة بهذه الأحرف التي افتتحت بها هذه السورة إحاطة كتابية متوسطة، فوقع الافتتاح فيما وقع عليه أمر القرآن في تلاوته في الأرض بالرتبة المتوسطة من حيث هي أقرب للطرفين وأيسر للاطلاع على الأعلى والقيام بالأدنى، فكان ما كان في القرآن من {الم تلك آيات الكتاب الحكيم} [لقمان: 26] ونحوه تفصيل إحاطة من إحاطة الكتاب التي أنزلت فيها سورة البقرة، فكانت مشتملة على إحاطات الكتب الأربعة: كتاب التقدير الذي كتبه الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الخلائق بما شاء الله من أمد وعدد، ورد «أن الله كتب الكتاب وقضى القضية وعرشه على الماء»، و«أن الله سبحانه وتعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف عام» وأنه قدر الأرزاق قبل أن يخلق الصور بألفي عام- وكثير من ذلك مما ورد في الأخبار؛ وفي مقابلة هذا الكتاب السابق بالتقدير الكتاب اللاحق بالجزاء الذي كتبه الله سبحانه وتعالى ويكتبه أثر تمام الإبداء باستبقاء الأعمال البادية على أيدي الخلق الذين ينالهم النعيم والجحيم والأمن والروع والكشف والحجاب؛ وهذا الكتاب الآخر مطابق للكيان الأول، ويبين بتطرقهما كتاب الأحكام المتضمن لأمر الدين والدعوة الذي وقعت فيه الهداية والفتنة، ثم كتاب الأعمال الذي كتبه الله سبحانه وتعالى في ذوات المكلفين من أفعالهم وأحوال أنفسهم وما كتب في قلوبهم من إيمان أو طبع علهيا أو ختم عليها بفجور أو طغيان؛ فتطابقت الأوائل والأواخر واختلف كتاب الأحكام وكتاب الأعمال بما أبداه الله سبحانه وتعالى من وراء حجاب من معنى الهدى والفتنة والإقدام والإحجام، فتضمنت سورة البقرة إحاطات جميع هذه الكتب واستوفت كتاب الأقدار بما في صدرها من تبيين أمر المؤمنين والكافرين والمنافقين، وكتاب الأفعال كما ذكر سبحانه وتعالى أمر الختم على الكافرين والمرض في قلوب المنافقين، وما يفصل في جميع السورة من أحكام الدين وما يذكر معها مما يناسبها من الجزاء من ابتداء الإيمان إلى غاية الإيقان الذي انتهى إليه معنى السورة فيما بين الحق والخلق من أمر الدين، وفيما بين الخلق والخلق من المعاملات والمقاومات، وفيما بين المرء ونفسه من الأيمان والعهود، إلى حد ختمها بما يكون من الحق للخلق في استخلاف الخلفاء الذين ختم بذكرهم هذه السورة الذين قالوا: {غفرانك ربنا} إلى انتهائها؛ ولما كان مقصود هذه السورة الإحاطة الكتابية كان ذلك إفصاحها ومعظم آياتها وكانت الإحاطة الإلهية القيومية إلاحتها ونور آياتها، فكان ذلك في آية الكرسي تصريحًا وفي سائر آيها الإحة بحسب قرب الإحاطة الكتابية من الإحاطة الإلهية، وفي بدء سابق أو ختم لاحق أو حكمة جامعة، فلذلك انتظم بالسورة التي ذكرت فيها البقرة السورة التي يذكر فيها آل عمران، لما نزل في سورة آل عمران من الإحاطة الإلهية حتى كان في مفتتحها اسم الله الأعظم، فكان ما في البقرة إفصاحًا في سورة آل عمران إلاحة، وكان ما في البقرة إلاحة في سورة آل عمران إفصاحًا، إلا ما اطلع في كل واحدة منهما من تصريح الأخرى؛ فلذلك هما سورتان مرتبطتان وغيايتان وغمامتان تظلان صاحبهما يوم القيامة، وبما هما من الذكر الأول وبينهما من ظاهر التفاوت ما بين الإحاطة الكتابية وبين الإحاطة الإلهية فلذلك كانت سورة البقرة سنامًا له والسنام أعلى ما في الحيوان المنكب وأجمله جملة وهو البعير، وكانت سورة آل عمران تاج القرآن والتاج هو أعلى ما في المخلوقات من الخلق القائم المستخلف في الأرض ظاهره وفي جميع المكون إحاطته؛ فوقع انتظام هاتين السورتين على نحو من انتظام الآي يتصل الإفصاح في الآية بإلاحة سابقتها كما تقدم التنبيه عليه في مواضع- انتهى.
وسر ترتيب سورة السنام على هذا النظام أنه لما افتتحها سبحانه وتعالى بتصنيف الناس الذين هم للدين كالقوائم الحاملة لذي السنام فاستوى وقام ابتداء المقصود بذكر أقرب السنام إلى أفهام أهل القيام فقال مخاطبًا لجميع الأصناف التي قدمها {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21] واستمر إلى أن بان الأمر غاية البيان فأخذ يذكر مننه سبحانه على الناس المأمورين بالعبادة بما أنعم عليهم من خلق جميع ما في الوجود لهم بما أكرم به أباهم آدم عليه الصلاة والسلام، ثم خص العرب ومن تبعهم ببيان المنة عليهم في مجادلة بني إسرائيل وتبكيتهم، وهو سبحانه وتعالى يؤكد كل قليل أمر الربوبية والتوحيد بالعبادة من غير ذكر شيء من الأحكام إلا ما انسلخ منه بنو إسرائيل، فذكره على وجه الامتنان به على العرب وتبكيت بني إسرائيل بتركه لا على أنه مقصود بالذات، فلما تزكوا فترقوا فتأهلوا لأنواع المعارف قال معليًا لهم من مصاعد الربوبية إلى معارج الإلهية {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو} [البقرة: 163] فلما تسنموا هذا الشرف لقنهم العبادات المزكية ونقاهم أرواحها المصفية فذكر أمهات الأعمال أصولًا وفروعًا الدعائم الخمس والحظيرة وما تبع ذلك من الحدود في المآكل والمشارب والمناكح وغير ذلك من المصالح فتهيؤوا بها وأنها المواردات الغر من ذي الجلال فقال مرقيًا لهم إلى غيب حضرته الشماء ذاكرًا مسمى جميع الأسماء {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255] ولما كان الواصل إلى أعلى مقام الحرية لابد عند القوم من رجوعه إلى ربقة العبودية ذكر لهم بعض الأعمال اللائقة بهم، فحث على أشياء أكثرها من وادي الإحسان الذي هو مقام أولي العرفان، فذكر مثل النفقة التي هي أحد مباني السورة عقب ما ذكر مقام الطمأنينة إيذانًا بأن ذلك شأن المطمئن، ورغب فيها إشارة إلى أنه لا مطمع في الوصول إلا بالانسلاخ من الدنيا كلها، وأكثر من الحث على طيب المطعم الذي لا بقاء بحال من الأحوال بدونه، ونهى عن الربا أشد نهي إشارة إلى التقنع بأقل الكفاف ونهيًا عن مطلق الزيادة للخواص وعن كل حرام للعوام، وأرشد إلى آداب الدين الموجب للثقة بما عند الله المقتضي بصدق التوكل المثمر للعون من الله سبحانه وتعالى والإرشاد إلى ذلك، توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو متلبس به؛ وبنى سبحانه وتعالى كل ثلث من هذه الأثلاث على مقدمة في تثبيت أمره وتوجه بخاتمة في التحذير من التهاون به، وزاد الثالث لكونه الختام وبه بركة التمام أن أكد عليهم بعد خاتمته في الإيمان بجميع ما في السورة، وختم بالإشارة إلى أن عمدة ذلك الجهاد الذي لذوي الغي والعناد، والاعتماد فيه على مالك الملك وملك العباد، وذلك هو طريق أهل الرشاد، والهداية والسداد والله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب. اهـ.